صفاقس و الماء
لزاهر كمون
« و شرب أهلها (صفاقس) من مواجل بها و مواجنها صالحة الطعوم حافظة لما استودعت » ابن حوقل صورة الأرض
صفاقس »قرعة العطش » أو »بلاد العطش », هكذا سماها أهلها, هذه المدينة التي تعاني الجفاف و قلة الأمطار استطاع سكانها إيجاد حل لهذا المشكل من خلال بناء المنشئات المائية الخاصة و المنشئات المائية العامة
المنشئات المائية الخاصة
انقسم المجال الجغرافي لصفاقس منذ القديم إلى العديد من الأقسام فنجد بداية المدينة العتيقة ذات الأسوار ثم مجال الأرباض التي كان يسكنها النازحون ثم مجال الجنان أو الأجنة و هي رياض اشتهرت بكل ما طاب من الثمار والخضروات ثم مجال الغابة و نجد فيها البورة و الحوازة وهي أراض شاسعة لغراسة الزيتون أو اللوز أو الفستق كما نجد السانية و تتميز بالفلاحة السقوية
ذكاء الصفاقسي و بذله للجهد ساهما في تطوير فلاحة صفاقس فلا فلاحة بدون ماء. فقد بنى أهل صفاقس المواجل و الآبار في منازلهم في المدينة العتيقة و الأجنة و الأراضي الفلاحية
الماجل
الماجل هو خزان للماء يخزن فيه ماء المطر الذي يجمع من السطوح و ينقل عبر الميزاب فلا يخلو أي منزل في المدينة العتيقة أو البرج من ماجل. ماء الماجل حلو يستعمل للشرب و طبخ الأكل
قبل بناء الماجل يقع اختيار مكان مناسب له فيجب أن يكون بعيدا عن أماكن التلوث مثل البالوعات (الكنيف) و في مكان مظلل حتى يبقى ماؤه دافئا في الشتاء و باردا في الصيف
يتم بناء الماجل وفق عديد المراحل منها:
الحفر و يستعمل في ذلك فردتي صرافة أو أعواد زيتون تشد إليها طلية أو جرارة يتدلى منها خيط يستعمل لنزول عامل الحفر و صعوده (الحفار) و لإنزال المعدات و التخلص من بقايا الحفر. تستعمل البيوش في الحفر كما يستعمل الحفار قفتين لحمل الأشياء
التجصيص
الليقة أوالتكحيل بالاسمنت على الارشة بعد نقشها ليساعد الملاط على الالتصاق و أما إذا كانت الأرض طينا فان الماجل يبنى من الأسفل إلى الأعلى بالحجارة
بعد إنهاء الماجل يطلى بالرماد أو قشور الدلاع لإزالة حرارة الاسمنت ثم توضع فوقه خرزة من الرخام أو الاسمنت يمكن إزاحتها متى أردنا و يكون فيها فم نستطيع إدخال الركوة أو الدلو منها و تغطى بغطاء من الخشب لحماية الماجل من تسرب الحيوانات أو الشوائب
يتم جمع الماء من السطوح و نقله بواسطة ميزاب من الفخار ثم أصبح من الفخار المطلي ثم تطور فأصبح من النحاس أو الاسمنت أو الأنابيب (الحلاقم) البلاستيكية. يوجد فاصل في الميزاب يستعمل لإغلاق الماجل عند امتلائه أو لتسريح الميزاب إذا انسد كما يستعمل لتزويد الماجل بالماء الخارجي عند جفافه و كان أجدادنا يضعون البيض به تبركا بالسنة الهجرية لعل العام يكون ممطرا
يحرص الصفاقسيون على الحصول على الماء النظيف و المعقم فيقومون في الخريف بتسقية سطوح المنازل و يعني طلاؤهم بالجير كما يقومون بسكب كمية من المواد المطهرة (جفال) أو وضع حجرة جير في الماجل للحفاظ على مائه من التلوث و يقومون بتفريغ الماجل و تنظيفه بصفة دورية كما يفرغ الماجل من الغرم كل ثلاث سنوات
يقع سحب الماء من الماجل بواسطة دلو أو ركوة مربوط بحبل من الحلفاء و الركوة كانت قديما من الخشب ثم أصبحت من النحاس او القصدير.يقع إنزال الدلو بواسطة جرارة خشبية أو حديدية
عند سقوط الركوة في الماجل يتم البحث عنها بواسطة الفتاشة و هي أداة بها مجموعة من السلاسل مختومة بكلاليب صغيرة
السطحة
كان الصفاقسيون يتبرعون بالمواجل على طرق الضواحي لكسب الثواب لذلك نجد اليوم العديد من السطح في الثنايا تحوي مجموعة من المواجل مثل سطحة زنقة الجريبي بطريق الأفران و سطحة زنقة شيخ روحه بطريق قرمدة
تتمثل السطحة في بناء مستطيل علوي مرتفع بحوالي المتر مساحته مختلفة و تبلغ مساحته المتوسطة حوالي المائة و العشرين مترا مربعا. يقع الماجل أو المجموعة من المواجل في وسطها و يصعد إلى السطحة بدرج. يتم جمع الماء الذي ينزل على السطحة و ينقل بواسطة ميلان السطحة (الصلب) إلى داخل الماجل
نجد السطحة أيضا داخل المسكن في برج الجنان و تكون خاصة مبنية من الجهة الشرقية أو الجهة الجوفية و ذلك لحماية المنزل من الفيضانات و لإضافة مائها إلى الماجل لتوفير الماء المدخر كما تستعمل السطحة للاسترواح عليها صيفا و إقامة الحفلات
الفسقية
الفسقية هي أيضا خزان للماء يشبه الماجل إلا أنها تختلف عنه من حيث العمق و الشكل فعمقها حوالي ثلاث أمتار أو اقل و لكنها ممددة و مستطيلة و مسقفة بقباب من دمس و قد اشتهرت بها خاصة جزر قرقنة
الآبار و العيون
على عكس الماجل يقع الحصول على الماء في البئر من المياه الجوفية و البئر هي حفرة عميقة في الأرض يمكن أن يصل عمقها إلى 25 مترا
يتميز ماء البئر بأن طعمه لا يصاغ لذلك كان يستعمل في غسيل الملابس و تنظيف المنازل و نجده خاصة في دويرية المنزل قرب المطبخ و المرحاض و المطهرة
يبلغ عرض البئر حوالي سبعين سنتيمترا و يطوق منه المتر الأول بالحجارة و الملاط ثم يواصل الحفار حفره بواسطة يد بيوش قصيرة لضيق البئر. يخاف الحفار من وجود القطع و هي طبقة من الأرض غير الطين و الارشة لأنه يجب عليه أن يبنيها بالحجارة فترتفع التكاليف و ينتظر مالك البئر البشارة بفارغ الصبر و البشارة هي نبع من الماء يظهر في أسفل البئر
يمكن أن نجد في المنزل بئرا و ماجلا و لكل واحد منهما استعمالاته الخاصة
عند استعمال البئر في السقي يسمى بئر سني. و كانت توجد في صفاقس بئر بطاحونة حفرها المرحوم محمد علولو في طريق العين سنة 1885 و قد كانت تعمل بالقوادس كبئر بروطة في القيروان ثم اشترت لها الطاحونة سنة 1922 و بنى قواعدها ايطاليون
الرقال
الرقال هو نوع من الآبار المتسعة و ماؤها مخصص لشرب الدواب لملوحته و سمي بالرقال لأنه طويل. أشهر الرقالات في صفاقس رقال العالية بالعين و رقال مركز حامد بالعين. للرقال بناء متين مرتفع بقدر ذراع لحمايته من التلوث و به أحواض لصب الماء
المنشئات المائية العامة
ساهم الحكام عبر العصور في بناء منشئات مائية لمساعدة الصفاقسي على مجابهة نقص الماء في مدينته
الآبار العمومية
بنى الصفاقسيون آبارا على الطرق الرئيسية و هي طرق الحمير و البغال و الخيول و الجمال و ذلك لسد حاجيات القوافل من الماء. و قد سميت طريق العين بطريق عين الدواب لوجود بئر قرب مركز العالية
من أشهر أبار صفاقس: بئر بن عياد و بئر علي بن خليفة و بئر الملولي و بئر ليماية و بئر الليتيم و بئر معلى و بئر سيدي صالح و من أشهر عيونها عين فلات و عين شيخ روحه و عين الشرفي و عين تركية
بناء مواجل الناصرية
قدم السلطان الموحدي محمد الناصر بن يعقوب (1199-1214) من المغرب إلى تونس اثر مطاردة الثائر الميروقي من بقايا المرابطين فمر بصفاقس فاكتشف أن أهلها يعانون العطش فأمر ببناء 365 ماجلا (أو 366 ماجلا حسب المصادر) على عدد أيام السنة و سميت مواجل الناصرية على اسمه. بنيت هذه المواجل سنة 1203
طلب الصفاقسيون من محمد بن مراد باي إصلاح الناصرية بعد تدهورها فقام الباي المرادي ببناء سور يحميها
تظهر أهمية مواجل الناصرية من خلال تحبيس الصفاقسيين أملاكهم لها وذلك لصيانتها و زيادة عددها بتطور عدد سكان المدينة كما أن سكان الساحل حبسوا الأملاك لها لأهميتها لتزويد القوافل بالماء و من بين الأملاك المحبسة المنازل و غابات الزياتين و الأجنة و كان يسهر على حماية المواجل خادم سقاية الناصرية
و بمرور الوقت تزايد عدد المواجل و وصل إلى أكثر من 600 ماجل. يقول شوفاي ان عددها وصل إلى ال 800 كما تم ذكر ذا العدد في تقرير تلاميذ المدرسة الحربية بباردو. فقدت هذه المواجل أهميتها بعد الاحتلال الفرنسي و إيصال ماء سبيطلة إلى صفاقس عبر الأنابيب. تحول مكان المواجل إلى معهد للتدريس و هو معهد الناصرية
الفسقيات
تتميز صفاقس بوجود العديد من الفسقيات من بينها
فسقية برج القصر
قام المعهد الوطني للتراث بحفريات سنة 1996 لكشف النقاب عن أسرار فسقية تم اكتشافها قرب المدينة العتيقة و ترجع إلى العصور الوسطى
تقع هذه الفسقيات قرب سور المدينة العتيقة في الشمال الشرقي. كان الفسقية مغطاة تحت منشئات الشركة الوطنية للنقل بصفاقس إلا أن تم اكتشافها بالصدفة من قبل عمال المعهد الوطني للتراث
كان يوجد في خريطة تم تصويرها سنة 1881 في نفس مكان الاكتشاف دائرة تحمل اسم فسقية الفندري
تتكون الفسقية من حوضين احدهما كبير و الأخر صغير و يوجد اتصال بينهما. يبلغ القطر الداخلي للحوض الصغير 8.4م و القطر الخارجي 10م و عمقه 3.5م و يستعمل كمصفاة للحصى و الشوائب. أما الحوض الكبير فيبلغ قطره الداخلي 31.5م و قطره الخارجي 33.3م.
يوجد جنوب الحوض الكبير خزان للماء مغطى بأقبية و طوله 10م و عرضه 2.5م و عمقه 3م و مربوط بالحوض الكبير
من بين اللقى التي اكتشفت في مكان الحفريات بقايا خزف تعود لعصور مختلفة و منها العصر الحفصي و نقيشة من الجبس تحمل زخرفة نباتية و كتابات بالخط الكوفي يمكن تحديد عمرها بين القرن العاشر ميلادي و الثاني عشر ميلادي
كما وقع العثور على حافظة نقود تحوي 35 قطعة نقدية فضية و هي دراهم مربعة. بعد دراسة هذا الكنز تم التعرف على مركز ضرب العملة و هي تونس العاصمة و تعود النقود إلى العهد الموحدي و بالتحديد في أخر فترة حكم أبي زكريا
فسقية الشعري
توجد هذه الفسقية بين طريقي العين و الأفران بعيدة حوالي 200 مترا عن المدينة العتيقة و هي بناء مكشوف مثل الجابية و بها فتحتان واحدة شمالا و واحدة جنوبا. كان ماؤها يجمع من واد القناطر
من طريف أخبار الفسقية انه يقال انه يوجد بمنزل بزنقة الفنطازية قرب سيدي بوشويشة ممشى تحت الأرض يؤدي إلى فسقية الشعري كما كان يتحدث أيضا على ممشى أخر يوجد بمنزل بحومة الحميدية بالمدينة العتيقة
تعود هذه الفسقية إلى العهد الأغلبي (بعد دراسة معمارها) و سميت بفسقية الشعري لوجود طراق صفاقسي كان يحمل الماء منها إلى سيدي بوشويشة
فسقية الباي
تحدث الشيخ مقديش في كتابه نزهة الأنظار في عجائب التواريخ و الأخبار بإطناب على معلم بناه علي بن حسين باي و هما فسقيتا الحديقة العمومية التي تسمى اليوم بالتوتة و هما الفسقيتان الكبرى و الصغرى. أمر الباي القايد بكار الجلولي ببناء هذه الفسقيات سنة 1772 و قد بدأ الحفر في ديسمبر 1772 و انتهى في جويلية 1774
بنيت الفسقيتان لجمع ماء أودية صفاقس وهي واد عين تركية و واد عين الشرفي النازلان من طريق العين وواد القناطر من منزل شاكر و واد العويات أو واد سيدي خليفة أو واد الشعبوني و واد عقارب و تتجمع هذه الوديان بواد المعو الذي يشق هذه الحديقة أين بنيت الفسقيات
كانت الفسقية الصغرى تصب في الكبرى فهي بمثابة المصفاة من الحصى و الأوراق و الشوائب و يبلغ طول الفسقية الصغرى 125 مترا و عرضها 31 مترا و عمقها 3.75م أما الفسقية الكبرى فطولها 125م و عرضها 99م و عمقها 7م, تبلغ كمية المياه التي تزود بها المدينة من الفسقيتين بحوالي 47000 متر مكعب.
هاتان الفسقيتان من بناء المعلمين سعيد القطي و الطاهر المنيف و مربوطتان بمواجل. من بين الاملاك المحبسة لحساب الفسقيتين فندق بني في الربض الجنوبي سنة 1778
المصادر
نزهة الأنظار في عجائب التواريخ و الأخبار لمحمود مقديش
تاريخ صفاقس لأبي بكر عبد الكافي
تاريخ السقاية بصفاقس لحسونة الملولي
FOUILLES D'UN SITE HYDRAULIQUE ISLAMIQUE DE LA MÉDINA DE SFAX Les Bassins de Borj al-Q'sar d’ Adnan LOUHICHI
Sfax aux XVIIIème et XIXème siècles, chronique d’une ville méditerranéenne d’Ali Zouari
Il était une fois des Sfaxiens (Rachid Baklouti)
معجم الكلمات والتقاليد الشعبية في صفاقس لعلي الزواري و يوسف الشرفي