صفاقس و القرصنة
لزاهر كمون
بدأت القرصنة في البحر المتوسط في القرن السادس عشر و كانت البداية مع العثمانيين الذي حرصوا على ألا يهيمن الأوروبيون على الحوض الغربي للبحر المتوسط فجابت سفن القرصنة البحر للهجوم على كل سفينة تعترضهم و من أشهر القراصنة العثمانيين خير الدين بربوس و عروج و درغوث
كانت القرصنة معترفا بها كنشاط بحري و ليست حكرا على المسلمين فقد كانت السفن الفرنسية و البريطانية و الهولندية و حتى الروسية تجوب البحر المتوسط
القرصنة في صفاقس
عرفت صفاقس مثل اغلب المدن الساحلية بالبحر المتوسط نشاطا مهما للقرصنة و خاصة في القرنين 18 و 19 و كانت الدول الأوربية تخاف بحّارة مدن شمال افريقيا التي كانت تسميها السواحل البربرية
بدأت القرصنة في صفاقس مبكرا ففي عهد يوسف داي (1560-1637) كثرت مراكب الجهاد و قد وصل عددها حسب مقديس 15 مركبا كبيرا و من ابرز رياسهم القبطان صمصوم و القبطان وردية و قد كانا نصرانيين فأسلما
كان أهل صفاقس إذا سمعوا بسفن العدو ضربوا طبلا على سور البلد فوق باب البحر فيجهز الرياس السفن و يأخذون زادهم من المؤونة و السلاح و يركبون السفن من رأس المخبز قرب طرابلس إلى راس ادار في تونس فإذا وجدوا عدوا حاربوه و إذا هرب تبعوه حتى يكسبوا الغنائم
تطورت القرصنة في صفاقس مع تطور التجارة البحرية فقد كانت صفاقس مركزا مهما للتجارة البرية و البحرية و اشتهر الصفاقسيون بتجارتهم مع الشرق فوصلت سفنهم إلى مصر و ليبيا و دمشق و الحجاز و اليونان و تركيا و فرنسا و ايطاليا و مالطا و غيرها و كان الصفاقسيون يتاجرون تقريبا في كل السلع
كان للقرصنة أيضا أهميتها عند اهل صفاقس و كانت تلقب بالجهاد البحري ضد الكفار أي المسيحيين الذين تسببوا في الحروب الصليبية و طردوا الأندلسيين من شبه الجزيرة الأيبيرية و هجوم فرسان مالطا فأصبحت القرصنة أو الجهاد البحري واجبا و كان قياد صفاقس من عائلة الجلولي في ذلك الوقت من أبرز مجهزي سفن القرصنة و كانت صفاقس ثاني اكبر ميناء للقرصنة في الايالة التونسية بعد ميناء حلق الواد. ساهم عدم اتحاد الدول الأوروبية في ايقاف القرصنة في إيجاد ظروف ملائمة لقراصنة شمال إفريقيا للعمل دون خوف من أي قوة أوروبية متحدة
من أهم السفن التي كانت تمارس القرصنة الغلايط و الشباك و الفلوكة
سجلت إحدى الوثائق الأرشيفية بتاريخ 19 رجب 1209/9 فيفري 1795 أن عمارة شباك صفاقس مجهز للقرصنة كانت بقيمة 2700 ريال
عند افتكاك سفينة بالقوة يتم إرسالها لتونس و تباع بضاعتها ثم تستعمل السفينة في القرصنة أو تباع أيضا كما يباع كل من عليها من أشخاص كعبيد و كان العبيد البيض يسمون علوجا. كان أهل صفاقس أيضا يخافون من القراصنة الأوروبيين خاصة المالطيين و قد كانت الأمهات عند الغضب يدعين على أبنائهن « يبيعك في جنوا » لان مدينة جنوة الايطالية كانت مكانا لبيع العبيد
سببت القرصنة الهلع في أوروبا و قد غادر سكان المدن و القرى الساحلية باسبانيا و فرنسا منازلهم خوفا من هجوم القراصنة
القايد محمود الجلولي
يعتبر القايد محمود الجلولي من ابرز قياد صفاقس ثم تقلد قيادة سوسة, و قد جلب المملوك مصطفى صاحب الطابع الذي كان اصله من جورجيا و اهداه لحمودة باشا الحسيني (1759-1814). ولد محمود الجلولي بين 1750 و 1755 و توفي سنة 1839, أبوه بكار الجلولي مارس أيضا القرصنة و قد جلب المملوك يوسف صاحب الطابع من اسطنبول و أهداه إلى حمودة باشا
كان محمود الجلولي من أهم افراد عائلة الجلولي الذين مارسوا القرصنة فبين 1783 و 1815 وقع تجهيز أكثر من 130 سفينة بهدف القرصنة من قبل عائلة الجلولي و على 98 قرصان قام محمود الجلولي لوحده بتجهيز 75 قرصانا انطلاقا من ميناء صفاقس كما كان يجهز سفنا من سوسة و من حلق الواد
من أشهر رياس محمود الجلولي احمد القليبي الذي كان رائسا على شباك به 8 مدافع و 50 رجل و قد انطلق في إحدى سفراته من تونس يوم 10 أكتوبر 1802 ثم أرسى بسفينته يوم 3 نوفمبر 1802 في مالطا للقيام ببعض الإصلاحات بعد أن تعرضت سفينته لإضرار من إحدى العواصف
باع القايد محمود الجلولي من خلال وكيله اليهودي إبراهيم شطبون إحدى الفلوكات النابولية للكابتن ليتشاردوبولو البحار الروسي أصيل اليونان كما باع في 1 فيفري 1806 احد الشباك النابولية لبحار صقلي و باع يوم 15 جوان 1806 احد الشباك لأحد البحارة العثمانيين من أصل يوناني
كان معدل المراكب الخارجة لمحمود الجلولي خلال 13 سنة (1783-1806) هي بحساب 5 سفن كل سنة
اشترك مصطفى خوجة مع محمود الجلولي في تجهيز مراكب القرصنة سنة 1784 و 1795
لوحة متحف حرم الزبار
تعود هذه اللوحة إلى القرن السابع عشر و بالتحديد سنة 1631 و تصور اللوحة سور مدينة صفاقس و البحر و بعض السفن الراسية في مينائها. نلاحظ على اليسار إحدى الفرقاطات الصفاقسية و بها بعض القراصنة بصدد إعدام أسراهم المالطيين
نشاهد على اليمين إحدى السفن المالطية هاربة و تلحقها أربع سفن صفاقسية
تعرض هذه اللوحة اليوم في متحف حرم الزبار في مالطا و تعتبر أقدم لوحة عرفت إلى اليوم لمدينة صفاقس
نهاية القرصنة
قررت الدول الأوروبية في النهاية الاتحاد لمنع القرصنة في المتوسط و جاءت أول مبادرة من قبل دوفيبار كاي سنة 1783 فقد دعا كاتب الدولة الفرنسية ووزير خارجيتها إلى وجوب مبادرة فرنسا بمعية الدول الأوروبية إلى القيام بالواجب الإنساني ضد قرصنة شمال إفريقيا.
بعد وفاة حمودة باشا الحسيني بشهر واحد نزلت قوة كبيرة من القراصنة التونسيين بجزيرة سانت انتيوش التابعة للتاج البريطاني و أسرت معظم سكانها و حملتهم إلى تونس. تسبب ذلك في هلع دولي و كثرت الخطابات ضد القرصنة و اتحدت الدول الغربية. اتجه أسطول بريطاني نحو شمال إفريقيا سنة 1816 فدك حصون و سفن الجزائر مما اجبر داي الجزائر على عقد معاهدة لمنع القرصنة ثم انطلق الأسطول نحو حلق الواد و كانت بعض القنصليات الغربية قد بدأت المفاوضات مع باي تونس محمود باي فامضي اتفاقية يوم 17 افريل 1816 ثم اتجه الأسطول نحو طرابلس يوم 24 افريل و اجبر الباشا على إمضاء معاهدة أخرى و بذلك حرر الرقيق الأبيض و خفت حدة القرصنة في البحر المتوسط
لم تنقطع القرصنة في تونس بعد هذه المعاهدة و تواصلت السفن جهادها ولكن بأقل حدة و منعت القرصنة نهائيا سنة 1819 وفقا لمقررات مؤتمر ايكس لاشابال سنة 1818
المصادر
تجار البلاط بايالة تونس أواخر القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر, المهدي جراد
Le Makhzen en Tunisie, les Djellouli, Abdelkader Maalej
Daniel Panzac, Les Corsaires barbaresques. La fin d’une épopée, 1800-1820
سياسة حمودة باشا في تونس, 1782-1814 رشاد الإمام
نزهة الأنظار في عجائب التواريخ و الأخبار, الشيخ مقديش
تونس العثمانية بناء الدولة و المجال عبد الحميد هنية
أعوان الدولة بالايالة التونسية: الأفراد, المجموعات, شبكات العلاقات (1735-1814) سلوى هويدي