تونس و حرب القرم

لزاهر كمون

تعتبر حرب القرم من أهم الحروب التي عرفها التاريخ و ذلك لحجم العتاد و الرجال المشاركين فيها. بدأت حرب القرم سنة 1853 بمشاركة عديد الدول المتحالفة وهي الدولة العثمانية و المملكة المتحدة     و فرنسا و مملكة سردينيا و الإمبراطورية النمساوية  من جهة و روسيا القيصرية من جهة أخرى. كان لهذه الحرب عديد الأسباب من بينها محاولة روسيا تمثيل المسيح الاورثودوكس في الدولة العثمانية      و محاولتها الإبحار في البحر الأبيض المتوسط. إلا أن أطماع روسيا لم ترق الباب العالي و حلفائها فاندلعت الحرب وقد دامت حوالي الأربع سنوات و انتهت بفوز الدولة العثمانية و حلفائها. سميت هذه  الحرب بحرب القرم لأنها حدثت في شبه جزيرة القرم في البحر الأسود . لن أطيل عليكم شرح تفاصيل هذه الحرب فالكتب و المقالات كثيرة لمن يهمه الأمر. كل ما يهمّني هو مشاركة البعثة التونسية في  هذه الحرب حيث شاركت بعض الولايات التابعة للدولة العثمانية مثل مصر و تونس باعتبار أنه  كان واجبا على هذه الولايات إعانة الباب العالي في حروبها بالعتاد و الرجال وذلك لإثبات الولاء لاسطنبول.

لوحة بانورامية رسمها فرانس روباداثناء حصار سيفاستوبول

المشاركة التونسية

التحضيرات و السفر نحو اسطنبول

بدأت المشاركة التونسية في حرب القرم في عهد المشير أحمد باي سنة 1854 حيث لبّى هذا الباي الحسيني نداء الواجب نحو السلطنة العثمانية  وبدأ في تحضير الجيش (بعد أن وصله فرمان من السلطان العثماني في 17 نوفمبر 1853 يطلب منه اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعانة الدولة العلية) . يجب أن نذكر انه في عهد احمد باي شهد الجيش التونسي إصلاحات كبيرة (نظّم الباي الفرق العسكرية و كوّن فرقة الخيالة و اهتم بسلاح المدفعية و قسّم سلاح المشاة إلى آلايات كما بنى عدة قشل و عدة مصانع منها مصنع للباس العسكري و مصنع للجلد و مصنع للبارود و أرسى تعليما عسكريا عصريا).

أحمد باي

رغم أن الجيش التونسي كان في تلك الفترة فتيا و قليل الخبرة وكانت تونس تعاني من أزمة مالية  إلا أن احمد باي قرر المغامرة و بدأ في تجميع العتاد و الرجال فباع المجوهرات الخاصة و تحصل على القروض.

طمح احمد باي  إلى إرسال حوالي 14000 مقاتل إلا انه لم يستطع  إرسال إلا نصف العدد مقسمين على عديد الفرق من طبجية و مشاة و فرسان و بحرية و ذلك على عديد الدفعات و قد كان قائدهم أمير الأمراء محمد رشيد. تم إرسال الرجال و العتاد على متن سبعة سفن تونسية كما تم اكتراء 65 مركبا.

في 19 جويلية 1854 و قبل السفر تم زيارة الولي الصالح سيدي محرز وأخذ سنجق كما تم زيارة مقام الإمام الشاذلي.

كان السفر يوم 22 جويلية 1854 (19 جويلية في مصادر اخرى) حيث حضرت المراكب و قدم أمير الجيش مع أعيان الضباط لوداع الباي بقصره في حلق الوادي, تم نقل 6194 فرد من المشاة و 500 فرد من الطبجية و 888 نفرا من عساكر البحرية.

وصل الجيش التونسي إلى اسطنبول في 14 سبتمبر 1854 و قد أكرمت الدولة العلية مقدمهم فقد استقبلهم السلطان بنفسه.

أرسل احمد باي دفعة ثانية من الجيش كانت متكونة من 90 جنديا من المشاة و 4 ضباط أركان حرب و 60 من الخيالة مع 8 ضباط و 26 من المدفعية في 2 مارس 1855.

يذكر أن احمد باي لم يشهد نهاية حرب القرم فقد توفي قبل ذلك و خلفه محمد باي الذي أرسل بدوره عسكرا لإعانة العساكر التونسية متمثلا في 1831 رجلا و 594 رأسا من الخيول و 6000 مكحلة هدية إلى خزنة الباب العالي و قد حضر ركوبهم البحر في حلق الوادي في 28 جوان 1855.

محمد باي

يمكن القول أن العساكر التونسية أرسلت على ثلاث دفعات اثنان منهما في عهد احمد باي و الثالثة في عهد محمد باي و قد كان مجموع العساكر التونسية المرسلة 9503 بين جنود و ضباط.

العتاد و الأسلحة المرسلة

إضافة إلى الجند أرسلت تونس الأسلحة و العتاد و هذه قائمة ببعض مما أرسل:

التجهيزات و العتاد: كساوي ملف شتوي, سواري قماش, خيط سباولو خشين, قماش, فنارات, أكواز قصدير للزيت, قوازن نحاس, طاصات, قبيطاصات, تبسي, فأس, مسحاة, شاقور, خيام…

الأسلحة و القطع البحرية و الخيل : تم إرسال المسدسات و المكحلات و البندقيات و المدافع (60 مدفعا في الدفعة الأولى) و الخيل (461 خيلا في الدفعة الأولى)  و عديد القطع البحرية (الفرقاطة الحسينية و بريك النسر و بريك السعيد و بريك الحطاب  و البابور المينوس و و البابور المنصور و البابور الباجي مزودة ب 104 مدافع بحرية).

كما أعانت تونس الدولة العثمانية بإرسال 6000 بندقية و 200 حصان طلبها السلطان و 200000 ألف دورو عملة فرنسية و عدد من الطواجن الخاصة بصنع الخبز طلبها القائد العثماني كما قامت تونس بالتخلي عن 466 حصانا لفائدة الدولة العثمانية بعد انتهاء الحرب.

أثناء الحرب

كانت البعثة العسكرية التونسية تعيش في مناطق نائية ذات ظروف طبيعية قاسية فقد أقامت في منطقة باطوم البعيدة 800 كم على اسطنبول و التي تقع على أقصى الحدود الشمالية الشرقية للإمبراطورية العثمانية. كما أقام العساكر بكل من خزر قلعة و شروكسوا و ساخوم و كمخال و شوكتيل و لاغوة و باطوم و بريزة و طرابزان و ليمان.

موقع شبه جزيرة القرم

تعتبر المصادر التي تتحدث عن مشاركة العساكر التونسية في حرب القرم قليلة و لا يعرف بالتدقيق الأعمال التي اضطلعت بها البعثة التونسية في الحرب إلا أن أغلب المعلومات تتحدث عن مساعدة الجيش التونسي للجيش العثماني في تفريغ الأرزاق و المؤن من المراكب و جرّها إلى أماكن الخزن     و تفريغ الفحم الحجري من المراكب و جمع الحطب و بناء مساكن العساكر و الحصون و الاستحكامات.

كما أن الجيش التونسي يمكن أن يكون قد ساهم في حماية الحدود العثمانية حيث انه ارتكز أساسا في الحدود الشمالية الشرقية للإمبراطورية العثمانية.

شارك كذلك الجيش التونسي في بعض العمليات العسكرية مع الجيش العثماني و مثال ذلك مشاركة 400 جندي مع الجند العثماني و قد أعد الخطة قائد الجيش التونسي رشيد بمشاركة ضباط تونسيين.

نهاية الحرب و عودة العساكر التونسيين إلى أرض الوطن

انتهت الحرب اثر انعقاد مؤتمر في باريس في فيفري 1856 بالصلح بين الدولة العلية و روسيا و قد وصل الخبر إلى تونس  في 18 أفريل 1856 و أطلقت بهذه المناسبة المدافع في حلق الوادي فرحا.

بدأت المراكب تعود بالعساكر إلى تونس و قد رجع أمير الأمراء محمد رشيد يوم 3 أوت 1856 كما قدم في نفس الوقت رسول من الدولة العلية حاملا نيشان و سيفا مرصعا للباي. نزلت العساكر بشاطئ العبدلية و كان في استقبالها محمد باي (1855-1859). و قد كان عدد العساكر العائدين 8049 فردا و كان ذلك في شهر سبتمبر 1856.

حضيت البعثة التونسية بتقدير كبير أثناء الحرب كما منح السلطان وسام الافتخار لأغلب الجند و الضباط.

نسخة من اللوحة الزيتية التي انجزها احمد الفقيه سنة 1982 لفائدة المتحف العسكري و تصور استعراض البعثة العسكرية التونسية بعد عودتها من حرب القرم أمام قصر تاج بالمرسى

هل يمكن اعتبار حرب القرم حربا عالمية؟

وفق بعض الخبراء يمكن اعتبار حرب القرم حربا عالمية أولى و ذلك لعديد الأسباب:

-عدد الدول المشاركة و هي الدولة العثمانية (بمساحتها الشاسعة و عدد ولاياتها) و تونس و مصر كولايتين عثمانيتين مشاركتين بصفة مباشرة و روسيا وفرنسا و بريطانيا و سردينيا و الإمبراطورية النمساوية.

-حجم العتاد و الأسلحة المستعملة و عدد الجنود المشاركين في الحرب.

-المصالح التي دخلت لأجلها بعض الدول في الحرب.

-يذكر أن حرب القرم هي أول حرب يقع تغطيتها من قبل مراسلي الصحف.

ماذا بقي اليوم من ذكريات حرب القرم للتونسيين

العديد مم التونسيين لا يعرفون حرب القرم و هذه فرصة لمن لا يعرفها فأقدم لكم هذا المقال علّه يطلعكم على بعض خفايا هذه الحرب.  كما يمكن لمن يريد مزيد التعرف على هذه الحرب زيارة المتحف العسكري بمنوبة للاطلاع على  بعض المعروضات من هذه الحرب مثل الأسلحة النارية و المدافع  كما يمكن مشاهدة بعض اللوحات التي تصور عودة الجيش التونسي إلى أرض الوطن بعد نهاية الحرب.

اشترى المجموعة المعروضة بالمتحف العسكري الوطني المشير احمد باي (1837-1855) لتجهيز الجيش الذي أرسل إلى حرب القرم. كانت هذه المجموعة محفوظة في دار السكة في باردو و تم جلبها إلى المتحف العسكري سنة 1984

يذكر أن بعض الجنود التونسيين لم يعودوا إلى تونس و بقوا في السلطنة العثمانية فأعطاهم سلطان الدولة العلية قطعة أرض في ولاية قسمطوني فكوّنوا فيها قرية تعرف اليوم باسم قرية التوانسة يرفع فيها العلم التونسي و يمارسون فيها العادات التونسية, كما أن في هذه القرية قبر للكولونيل محمد التونسي و الذي كان واحدا من القادة المشاركين في حرب القرم.

تونسلار

المصادر

المتحف العسكري, قصر الوردة, منوبة

المتحف العسكري الوطني, وزارة الدفاع الوطني

إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان,  أحمد بن أبي الضياف

مجلة معالم و مواقع, ديسمبر 2005

مذكرات الأمير الاي عسكر الخيالة التونسية فرحات, الشيباني بنلغيث

أضواء على مشاركة البعثة العسكرية التونسية في حرب القرم 1854-1856

Leave a reply

Your email address will not be published.